كَتَب سَفِير البُنْدُقِيَّة رسالةً مُقتَضبة إلى مجلس الشيوخ بتاريخ 4 مايو، وكرَّر الرِّسالة بتاريخ 6 مايو، وكان في الرِّسالة جملة واحدة: "مَاتَ العُقَاب (النَّسر) العَظِيم".
العُقَاب العَظِيم هُــوَ: مُحَمَّد بْن مُرَاد بْن مُحَمَّد بْن بايزيد بْن عُثْمَان؛ السُّلْطَان المُعظَّم، والمَلِك المُفخَّم، الغازي الكبير، ومَلِك الرُّوم وصَاحِب القُسْطَنْطِينِيَّة.
يَصِف المؤرِّخ الأميركي چون فريلي ردَّ فعل البُنْدُقِيَّة عند وُصول خَبر مَوت "محمَّد الفَاتِح" فيقول: "وَصَلت الرِّسَالة في 29 مايو 1481م، في ذِكْرَى مُرور 28 سنة على سقوط القُسْطَنْطِينية، وصل حامل الرسالة إلى القصر الحاكم فأُخْبِر أنَّ رئيس الجمهوريَّة في اجتماعٍ مع مجلس الشيوخ، فلم ينتظر؛ بل اندفع بقوَّةٍ داخل حجرة الاجتماع الكبرى صارخًا: La Grande Aquila è morta "مَات النَّسر العَظِيم"!
بعد أن قرأ رئيس الجمهوريَّة رسالة سفير البُنْدُقِيَّة أعطى أوامره مباشرةً بدقِّ الجرس الأعظم في كنيسة سان ماركو، الذي لا يُدَقُّ إلَّا في ظروفٍ معيَّنةٍ محدودة؛ مثل وفاة رئيس الجمهوريَّة، أو قُدوم عدوٍّ إلى أبواب المدينة، أو تحقيق نصرٍ للجمهوريَّة؛ وسريعًا انتشر الخبر في المدينة كلِّها، وبدأت أجراس الكنائس كلها تُدَقُّ بالاشتراك مع الجرس الأعظم احتفالًا بموت الرَّجُل الَّذي عُرِفَ عندهم بالتُّركِي العَظِيم Grande Turco، ثُم أرسل رئيس الجمهوريَّة فورًا رسالةً إلى البابا سيكستوس الرَّابع في روما، ولمَّا وصلته الرِّسالة أَمَر بإطلاق المَدَافع مِن قلعة سان أنجلو، وكذا أمر بدقِّ أجراس روما كلِّها، ثم استدعى كلَّ الكرادلة، وأيضًا كلَّ السُّفراء، ليقوم بمَسِيرةٍ حَاشدةٍ مِن كنيسة سان بيتر إلى كنيسة سانتا ماريا، وفي اللَّيل أُضِيئت رُوما بالألعاب النَّاريَّة مع استمرار دقِّ الأجراس وصَلَوات الشُّكر في كلِّ الكنائس!
تقول المؤرِّخة الإنجليزيَّة إليزابيث ستون: "عندما عَلِم البابا بموت "محمَّد الفَاتِح" أَمَر بصلوات الشُّكر لمدَّة ثلاثة أيَّامٍ مُتَتالية، فلقد استراحت النَّصرانيَّة مِن أشدِّ أعدائها صُعوبة".
لم تكُن هذه الرَّاحة النَّصرانيَّة في إيطاليا فقط؛ بل انتشرت في أوروبا كلِّها، يقول چون فريلي: "عَمَّت الألعاب النَّاريَّة، وأصوات أجراس الكنائس، كلَّ شمال أوروبا؛ لقد مات التُّركِي العَظِيم، ولا تحتاج أوروبا إلى الخوف بعد اليوم".
أمَّا سَعَادة رودس فقد فاقت الحُدود! خاصَّة أنَّهم على الأغلب كانوا المحطة التالية لجيش "السُّلطان الفَاتِح"؛ ولذلك فقد اجتمع فرسان القديس يوحنا مبتهجين في يوم 31 مايو 1481م يستمعون لخُطبةٍ طويلةٍ خطبها فيهم كاورسين جيوم نائب السيِّد الأكبر، وبدأها بحمده للرَّبِّ على أنَّ جُرح النَّصرانيَّة المَسمُوم قد انْدَمَل، وأنَّ النَّار المشتعلة قد أُخمِدت، وأنَّ الثُّعبان المتوحِّش وأَسوء أَعداء الصَّليب "محمدًا الثَّاني" قد مات، ثم أكمل خُطبةً طويلةً مليئةً بالسّباب والقَذف؛ وصف فيها "الفَاتِح" بأنَّه تابعٌ للشَّيطان، مع صفاتٍ أخرى كثيرة تخرج عن حدود الألفاظ الطبيعيَّة التي يتكلَّم بها الخُطباء والشُّعراء والسِّياسيُّون، إلى ألفاظ السُّفهاء الذين لا يُقدِّرون قيمة الكلمة، ولا يعرفون أَدَب الحديث، وخُطبة كاورسين موجودة محفوظة، ويُمكن الرُّجوع إليها في مصادر عِدَّة، ولقد وصفتها الدكتورة تيريزا ڤان بأنَّها خطبة لاذِعة تُعَدُّ نَمَوذجًا لِلقَدح والذَّمِّ!
لقد لخَّص المؤرِّخ الإنجليزي استيفين تيرنبول رؤيةَ الأوروبيِّين لموت "الفَاتِح" بقوله: "لم تكن القُوَّات مُتعدِّدة الجِنسيَّة التي يُحاول البابا أن يُكَوِّنها لِتحفظ إيطاليا، إنَّما الذي حَفِظَ إيطاليا على وجه الحقيقة هو مَوْت "محمَّد الفَاتِح"!
ومع كلِّ هذه المظاهر مِن الفَرحة الأوروبِّيَّة لموت "الفَاتِح" فإنَّ المُفكِّرين والدّبلوماسيِّين المُنصِفين كانوا ينظرون إلى الأمور نظرةً متوازنةً تُمكِّنهم مِن اكتشاف مواطن العَظمَة في القَادة والزُّعماء، وهذا هو الذي دَفَع الدُّبلوماسي الفرنسي الشَّهير والمؤلِّف الفذّ فيليب دي كومينز أن يقول في مذكِّراته: "إنَّ أعظم مُلوك أوروبا في القرن الخامس عشر، هُم: "محمَّد الفَاتِح"، ولويس الحادي عشر ملك فرنسا، وماتياس ملك المجر"؛ والمهمُّ أنَّه يقول هذا الكلام مع أنَّه يعمل في البَلاط المَلَكي للمَلِك الفرنسي لويس الحادي عشر، وهذا الجمع في العَظَمة بين "الفَاتِح" والمَلِك الفرنسي يُمكن أن يُسبِّب له حَرجًا، لكنَّها كانت الحقيقة التي لا يُمكن إخفاؤها!
ولم تكُن هذه النَّظرة خاصَّة بفيليب دي كومينز وحده، بل بكثيرٍ من الكُتَّاب الأوروبيِّين، والمفكِّرين الغربيِّين، وهذا ما دفع المؤرِّخ الإيطالي والأستاذ بجامعة كِوِين الكنديَّة أنتوني دي إيليا أن يقول: "إنَّ انتصارات محمَّد الفَاتِح السَّريعة وطُموحاته الثَّقافيَّة، حضَّت الكُتَّاب النَّصارى على مُقارنته بالإسكندر الأكبر".
إنَّه لا يُمكن تَجَاهُل مثل هذا الشَّخصيَّة الفَذَّة، ولا إنكار أثرها الفَرِيد في العالم، ولذلك عندما قرَّر المؤرخ الأميركي ديڤيد ديل تيستا أن يكتب مع رُفقائه موسوعة عن أهمِّ القَادة والحُكَّام والسِّياسيِّين في العالم، الذين أثَّروا في حركة التَّاريخ في الأرض، اختار مائتي شخصيَّة من كلِّ العصور، منذ فجر التَّاريخ حتى زماننا المُعاصِر، وكان مِن بين الشخصيَّات "محمَّد الفَاتِح"، وكَتَب في مقدِّمة حديثه عنه: "محمَّد الفَاتِح هو المُؤسِّس الحقيقي للإمبراطوريَّة العُثمانيَّة، وهو الذي ثبَّت دَعَائمها في شَرق البحر المتوسط، كما أنَّه هو الذي رسَّخ الشَّخصيَّة السِّياسيَّة والحضاريَّة للإمبراطوريَّة التي ظلَّت باقيةً حتى القرن العشرين".
هكذا كَتَب اللهُ تَعَالَى لِقِصَّة "محمَّد الفَاتِح" النِّهاية في 3 مايو 1481م، لكن لم ينته الحديث عنه بموته، بَل ظلَّ باقيًا، بِسِيرته، وكِفاحه، وجِهاده، وصَبره، ومُصابرته، ولقد ظلَّت الكثير مِن الملفَّات مفتوحة بعد وفاته، فهذا ملفٌّ في رودس، وذلك في إيطاليا، وثالث في البغدان، ورابع في المجر، وكذا هناك ملفَّاتٌ كثيرةٌ في البُندقية، وألبانيا، وصربيا، والشام، ومصر، وإيران، وملفَّات في البحر المتوسط، وأخرى في البحر الأسود، وثالثة في بحر إيجة، ورابعة في البحر الأيوني، وخامسة في البحر الأدرياتيكي!
لقد كان عمله كبيرًا، ونشاطه ضخمًا.
ولقد أُغْلِقت بعض هذه الملفَّات في حياة خَلَفِه بَايَزِيد الثَّاني، وأُغلِقت أخرى في حياة حَفَدته: سِلِيم الأوَّل، وسُلْيَمان القَانُونِي، وأُغلِقت ثالثة في حياة مَنْ جاء بعدهم مِن السَّلاطين، وما زالت بعض هذه الملفَّات مفتوحة إلى يومنا هذا!
وما أَبلَغ الكلمة التي قالها المؤرخ الإنجليزي الشَّهير أرنولد توينبي تَعلِيقًا على مَوت "محمَّد الفَاتِح": "يكمُن جَسد الفَاتِح في القَبر، ولكن رَوحُه تَسِير".
فَرَحِم اللهُ مُحمَّدًا الفَاتِح
*********
المصادر
نظم العقيان/ جلال الدين السيوطي
نيل الأمل/ عبد الباسط الملطي
Encyclopedia Britannica\ Murad II | Ottoman sultan
The Cambridge History of Islam\ Lambton, Ann Katherine Swynford, Lewis, Bernard Holt