كريم الجنابي
مدير عام للمنتدى والمكتبة الالكترونية
طاقم الإدارة
طـــاقم الإدارة
★★ نجم المنتدى ★★
نجم الشهر
عضو المكتبة الإلكترونية
عضوية موثوقة ✔️
كبار الشخصيات
غير متصل
من فضلك قم بتحديث الصفحة لمشاهدة المحتوى المخفي

الاســتــقــامــــــة

مفهوم الاستقامة
روى مسلم في صحيحه بسنده عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل
عنه أحدًا بعدك وفي حديث أبي أسامة غيرك قال: «قل آمنت بالله فاستقم«(1).

مفهوم الاستقامة:
الاستقامة في اللغة: استقامَ الشيء: اعتدل واستوى(2).
وفي الاصطلاح: يمكن تعريف مفهوم الاستقامة في الاصطلاح من عدة وجوه، منها:
1- سلوك الصراط المستقيم.
2- لزوم الشريعة في التوحيد والعبادة والأخلاق.
3-لزوم أوامر الله واجتناب نواهيه ومعرفة أثر ذلك.
4- السير على هدي النبي ﷺ وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، لقوله: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة
وإن كان عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
المهديين، فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل
محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة«(3).
ومنطلق هذا البحث هو التوجيه النبوي في قوله ﷺ: «قل آمنت بالله ثم استقم«(4).
ويؤيده قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(5).
وقوله جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}(6).
وقوله تبارك وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}(7).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (ص39، رقم 159)
(2) المعجم الوسيط 2/ 768 مادة (قَوَمَ)
(3) أخرجه أبو داود (ص151، رقم 4607)
(4) سبق تخريجه
(5) [هود: 112]
(6) [فصلت: 30]
(7) [الفاتحة: 6]

مجالات الاستقامة
الاستقامة مفهوم عام تدل على التمسك بهذا الدين عقديًا وعمليًا، لذا فإن هذا المفهوم يدخل في جميع أصول الإسلام
وفروعه، ومن أهم المجالات التي تقتضي الاستقامة فيها ما يلي:
أولاً: الاستقامة في العقيدة:
وهي التصور الصحيح عن الله سبحانه وتعالى وعلاقته بمخلوقاته وكونه، وذلك بالإيمان المطلق بالله تعالى وتوحيده
في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، والإيمان بسائر أركان الإيمان، وهو الإيمان بملائكة الله وكتبه رسله واليوم
الآخر والقدر خيره وشره، التي جاء ذكرها في كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ، يقول تبارك وتعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ
بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ
وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}(1).
ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل عليه السلام: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
وبالقدر خيره وشره«(2)فإن اعتقد الإنسان بهذه الأركان اعتقادًا صحيحًا، وتمثلت آثارها في جميع مناحي الحياة،
فإنه قد حصل على الاستقامة العقدية إن شاء الله تعالى، أما إذا اختلطت مع إيمانه بتلك الأركان تصورات أخرى،
وظن في غير الله تعالى النفع والضر، أو قدّم وسائط من البشر أو الشجر أو الكواكب لتقربه إلى الله تعالى، أو يخبره
عن الغيب، فإنه يسير في ظلمات الضلال، ويدخل في قضية الشرك والندية مع الله تعالى،
وبذلك فإن الاستقامة بعيدة عن واقعه العقدي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) [البقرة: 285]
(2) [مسند أحمد: 1/106]

ثانيًا: الاستقامة في العبادة
إذا استقام الإنسان عقديًا، وصار لديه يقينًا بأركان الإيمان الستة، فإن هذه الاستقامة وهذا اليقين الصحيح يؤثر على
سلوكه العملي، وينعكس على واقعه، في عباداته وعلاقاته مع الناس، فالاستقامة في العقيدة هي التصور الصحيح
والاستقامة في العبادة هي ترجمة هذا التصور إلى واقع ملموس، من خلال وظيفة الإنسان التي كلفه الله بها في الأرض
وهي استخلافه وعبادته، لقوله جل ذكره: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(1)، وأجلى صور الاستقامة في العبادة
هي أداء أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج، لأنها تعدّ سنام العبادات جميعها، وهي الثمرة الأولى لاستقامة
العقيدة، لأن من أهم مقتضيات استقامة العقيدة أن هذا الإله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه، وبعث مع كل مخلوق
رزقه، وبيده مقاليد أمور الكون، وإليه معادها، إن هذا الإله هو الوحيد الذي يستحق العبودية، ويستحق أن توجه
إليه الأعمال، فثمَّة علاقة وطيدة بين استقامتي العقيدة والعبادة، يقول تبارك وتعالى:
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) [الذاريات: 56]
(2) [الأنعام: 162]

ثالثًا: الاستقامة في التشريع
أما الاستقامة في التشريع فتعني التحاكم إلى منهج الله تعالى في جميع العلاقات والمعاملات، ابتداء من علاقة الإنسان مع
أسرته في بيته وانتهاء بعلاقته مع القضايا المصيرية الكبرى، وإن الحياد عن هذا المنهج والتحاكم إلى غيره يعدّ خرقًا
عقديًا خطيرًا يجلب غضب الله تعالى وسخطه على الناس، لأن التحاكم إلى غير منهج الله تعالى يدل على وجود منهج
وقانون أفضل وأصلح منه، وإن الاعتقاد بهذا يعد كفرًا واضحًا، لذا جاء التحذير الإلهي للأمة من مغبة اللجوء إلى
تشريع آخر، أو التحاكم إلى قوانين بشرية ظالمة، وأنه لا سبيل لهم ولا اختيار إلا التحاكم إلى كتاب الله وسنة نبيه
ﷺ، يقول تبارك وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ
حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(1).
ويقول أيضًا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}(2)
ففي ظل هذا التشريع الرباني تتحقق العدالة والمساواة بأجلى صورها، لأن الناس سواسية أمام حكم الله، فلا يستثني
هذا الحكم أحدًا مهما بلغ من الجاه والمكانة والنسب بين قومه، فيجلس في الخصومات الغني مع الفقير، والسيد
مع عبده، والأمير مع مأموره، والتاريخ الإسلامي حافل بأحداث وصور رائعة تعبر عن قوة هذا التشريع الرباني
وقوة قضاته وكيف أن أكابر الناس وساداتهم كانوا يرضخون ويضعفون أمام حكمه وقضائه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) [النساء: 65]
(2) [الأحزاب: 36]

رابعًا: الاستقامة في الأخلاق
إن الاستقامة الخُلقية تعني تلك الخوالج والمشاعر الوجدانية الطيبة التي تدغدغ النفس الإنسانية، وتزكيها وتملؤها
بكل معاني الخير من حب وإيثار وعفة وتعاون وإحسان وغيرها، ثم تتحول تلك الوجدانيات إلى ترجمة واقعية يعبّر
عنها سلوك الإنسان مع ربه ومع نفسه ومع الناس من حوله.
وعلى نقيض الاستقامة الخلقية يوجد الانحراف الخُلقي، الذي هو نتاج الوسوسة الشيطانية التي تغذي النفس
الإنسانية بالخبائث والشرور، فتتحول هذه النفس إلى مرتع خصب للمعاصي والمنكرات التي تترجم إلى واقع
عملي تتجسد في سلوك الإنسان وحركة جوارحه.
من أجل ذلك كان من أهم المبادئ التي جاء الرسول ﷺ لإرسائها في الأرض هو تثبيت دعائم الأخلاق في واقع
الناس، حيث يقول: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(1)، كما جاء الثناء الإلهي لرسوله عليه الصلاة والسلام
في الآية الكريمة {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ}(2).
وهذا يدل على أن الاستقامة الخُلقية لها شأن عظيم في حياة الناس، وأنها مقياس أساس لمعرفة حضارة أية
أمة أو انحطاطها، وهو ما عبّر عنه الشاعر بقوله:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وإن من أهم العوامل التي تمرن النفس على اكتساب الاستقامة الخلقية، هي العبادات التي تمثل حبل التواصل
مع الخالق جلّ وعلا، فالصلوات الخمس التي يقف الإنسان فيها بين يدي الله تعالى، ويبدأ بالتحميد والثناء،
والاستعانة به في الحياة، ومن ثم الدعاء بالاستقامة العامة في الدنيا والآخرة، استقامة في العقيدة واستقامة
في العبادة والأخلاق بقوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}(3)، فضلاً عن الأذكار الأخرى من تسبيح وتكبير وتعظيم،
وكذلك العبادات التي تزكي النفوس وتقوّم الجوارح على صنوف الخير، كالصيام والزكاة والحج، والإنفاق في
سبيل الله وغيرها، كلها تعين المسلم على تأسيس الدعامات الخلقية لديه.
لذا جاء في شأن الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}(4)،
وجاء في شأن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(5)، وجاء في شأن الصيام: «وإذا كان يوم صوم يوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه
أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم»(6)، وجاء في شأن الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ
الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}(7)، وغيرها من النصوص كثير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مالك في الموطأ (2/904، رقم 1609)
(2) [القلم: 4]
(3) [الفاتحة: 6]
(4) [العنكبوت: 45]
(5) [التوبة: 103]
(6) أخرجه البخاري (ص306، رقم 1904)
(7) [البقرة: 197]

خامسًا: الاستقامة في التعامل مع الناس بالعدل والإحسان
تظهر حقيقة الاستقامة وصدقها من خلال التعامل مع الناس والاختلاط معهم، وذلك بالاستناد على ركيزتين
أساسيتين هما العدل والإحسان، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(1).
أما العدل: فيكون في الرؤية الشاملة لأصناف الناس وأجناسهم، بحيث لا يتفاضل أحد على أحد إلا بما يتميزون
به من الدين والأخلاق، وأما بالنسبة للحقوق والواجبات فإن جميع الناس مشتركون فيها، المسلم وغيره لقوله
تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}(2).
أما الإحسان: فهو مراقبة الإنسان نفسه في كل صغيرة وكبيرة، وهو قمة الأدب مع الله تعالى وأوامره، وهو ما عبّر
عنه رسول الله ﷺ في حديث جبريل حين سأله عن الإحسان فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه
فإن لم تكن تراه فإنه يراك«(3).
وبناء على ذلك يتحدد سلوك الإنسان وانطلاقته في الحياة مع شرائح المجتمع جميعًا، مع الأسرة في البيت
سواء كان بين الزوجين أنفسهما، أو بين الوالدين والأبناء، وكذلك العلاقات القائمة مع الأقارب والجيران،
وسائر طيوف المجتمع المسلمين منهم وغير المسلمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) [النحل: 90]
(2) [المائدة: 8]
(3) أخرجه البخاري (ص12، رقم 50)

سادسًا: الاستقامة في الدعوة إلى الله
الاستقامة ضرورة دعوية، يتوقف عليها نجاح الدعوة وفشلها، فإن أي انحراف أو خروج عن مسار الاستقامة
بالنسبة للدعاة والمؤسسات الدعوية، يحدث خللاً وزعزعة في المسيرة الدعوية وحال المدعوين، لأن غالب
الناس يظنون في دعاتهم ومصلحيهم الخير والاستقامة، ويعدّونهم القدوة العملية لهم في الحياة، فإذا أحسوا خلاف
ذلك، ووجدوا تناقض الأعمال مع الأقوال عندهم، فإن تلك الصورة الحسنة والقدوة المثلى ستنقلب إلى عكسها،
وإن قنوات الاستقبال عند المدعويين ستتجه إلى مصادر أخرى، وعندها تكون الطامة والوبال
على الطرفين، الدعاة والمدعويين.
من أجل ذلك أمر الله تعالى دعاة دينه وأتباعه باتخاذ أسلم الوسائل وأحكمها والتحدث إلى الناس بأجمل العبارات
وألطفها، وتطبيق ذلك على أنفسهم قبل إلزام الآخرين بها، يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ
وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}(1).
وبالمقابل حذّرهم من الزلل في دروب الغواية والهوى، في التعاطي مع مبادئ هذا الدين التي يدعون الناس إليها،
من مخالفة العمل للقول أو الدعوة إلى أشياء تناقضها أفعالهم وسلوكياتهم اليومية، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}(2).
وبناء على هذا، فالاستقامة في الدعوة تعني استقامة الداعية على منهج الله في سلوكه الخاص،
وفي منهاج دعوته وطريقته فيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) [فصلت: 33]
(2) [الصف: 2-3]

آثار الاستقامة
للاستقامة آثار عظيمة ونتائج جمة، يلمسها الإنسان المستقيم قبل أي شخص، ويعيش عمره كله في ظلال معانيها
السامية التي تجاوزه لتشمل المجتمع والأمة بأسرها، ومن أهم تلك النتائج والآثار ما يلي:
1- الاطمئنان القلبي:
إذا استقام الإنسان مع الله تعالى وسار على دينه ونهجه في الأوامر والنواهي، فإنه يكسب سعادة روحية واطمئنانًا
نفسيًا في جميع الأوقات، لإحساسه بأنه في ميدان العمل وأداء المهمة التي أوكلها الله إليه، فهو يسير بنور الله
تعالى لا يخشى الظلمات التي قد تعتريه في الطريق، ولا يخشى وساوس الشيطان وهمزاته بتخويفه من الفقر أو
المرض أو المخاطر الأخرى التي يُبتلى بها الإنسان، يقول تبارك وتعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ
عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(1).{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي
قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ}(2).
بل يشعر الإنسان حينها أن رحمة الله قريبة منه تلقي في روعه السكينة والرضى، في الشدة والرخاء، يقول
عليه الصلاة والسلام: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء
شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له«(3)
2- تحقيق عبودية الله في الأرض:
ومن أعظم آثار الاستقامة أن الله تعالى يحفظ هذا الدين لأهله إلى يوم القيامة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(4)،
كما يسهل عليهم أداء فرائضه وإقامة أحكامه وتشريعاته، ودعوة الناس إليه، وبذلك يتحقق مبدأ العبودية لله تعالى في
أرضه، يقول تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ
بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(5).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) [الزمر: 22]
(2) [الفتح: 4]
(3) أخرجه مسلم (ص1295، رقم 2999)
(4) [الحجر: 9]
(5) [النور: 55]

3- الاستقرار والإنتاج:
ومن آثار الاستقامة على واقع الناس ومعايشهم أنها سبب في نزول الخير والبركة، وأنه جل وعلا يغدق على الأمة
المستقيمة القائمة على شرع الله تعالى النعم المتوالية في كل شيء، في الأمن والاستقرار وسعة الأرزاق، وبركة
الأوقات، وكذلك تقدم الأمة في شتى المجالات والميادين، يقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}(1).
وقد ربط الله تعالى صراحة بين الاستقامة وحصول الخير في الآية الكريمة: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا}(2).
وكما يربط جل ذكره بين الاستقامة وحصول الخير فإنه يربط بينها وبين تكفير الخطايا والذنوب ودخول الجنة،
كما في قوله جل ثناؤه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ . وَلَوْ
أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ
وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}(3).
ثم إن الاستقامة تدفع صاحبها للعمل بجد وإخلاص في أي مكان كان، في البيت أو المدرسة أو الشارع أو المصنع
أو المتجر، وهذا يؤثر بصورة إيجابية على نوعية الإنتاج المتعلق بطبيعة العمل، سواء كان نتاجًا فكريًا أو
صناعيًا أو زراعيًا أو تقنيًا، لأن جميعها يصب في صالح الأمة وتفوقها المادي والمعيشي.
4- تحقيق الخيرية:
إن مفهوم الخير مفهوم واسع يشمل خصالاً كثيرة، وقد حددها الله تعالى في كل ما أمر به ونهى عنه، فأي إنسان أو
أية أمة أخذت بهذه الخصال تدخل ضمن هذا المفهوم، ومن تلك الخصال الاستقامة، فإذا ما وجدت هذه الخصلة
في أي واقع فإنها تضفي عليه صفة الخيرية، لذا وصف الله تعالى المؤمنين الصادقين بهذه الصفة بقوله:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}(4).
ومن أجل ذلك عدّ الله تعالى هذه الأمة بأنها خير الأمم لأنها عرفت دين ربها وسارت عليه، وبذلت في سبيله الأموال
والدماء، يقول تبارك وتعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}(5).
5- العزة والنصر والقوة والغلبة:
إن صدق التعامل مع الله تعالى في السراء والضراء، وفي السر والعلن، وصدق التوكل عليه والاستعانة
به لا من غير سواه، وأداء الفرائض والواجبات كما يريدها الله تعالى، يمنح الأمة النصر والتمكين والغلبة
والقوة، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}(6).
وبالمقابل فإن الحياد عن الصراط المستقيم، واللجوء إلى غير الله تعالى، واتباع الهوى وترك الفروض والواجبات،
والتكالب على الدنيا، سبب في هوان الأمة وذلها وضعفها وتحكم الأعداء بها، يقول عليه الصلاة والسلام:
«إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم
ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم«(7).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) [الأعراف: 96]
(2) [الجن: 16]
(3) [المائدة: 65-66]
(4) [البينة: 7]
(5) [آل عمران: 110]
(6) [ محمد: 7]
(7) أخرجه أبو داود (ص501، رقم 3462)

الاستقامة والمرض النفسي
من فضل الله تعالى أن أهم ما يشرح صدر المؤمن، ويضفي عليه السكينة – كما سبق – استقامته الحقة على شرع
الله تعالى، واتباعه لهدي نبيه ﷺ، فهذا من أهم العناصر للطمأنينة والسكينة، وعدم القلق والاضطراب والشكوك والأوهام.
وحتى تؤتي الاستقامة أكلها مع شرائح المجتمع عامة والمريض النفسي خاصة، لا بد من بعض الإجراءات أو
اتباع بعض التوجيهات، للتغلب على الأمراض النفسية وتخفيف وطأتها على الإنسان المريض، ومن تلك التوجيهات
– وهي جزئيات الاستقامة – لكن ينص عليها بخصوصها:
1- الثقة بالله تعالى:
وذلك باللجوء إليه وحده بالدعاء وتقديم الطاعات بين يديه، والثقة المطلقة أنه هو الشافي الأول والأخير، وأنه الذي
بيده مقاليد الأمور، فلا يتحرك ساكن، ولا يسكن متحرك إلا بأمره، والكون كله بقضبته، وأنه على كل شيء قدير،
ثم أنه هو الذي ابتلى عبده بالمرض وهو الذي يشفيه، لقوله تبارك وتعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}(1).
والله تعالى عند حسن ظن عبده به، فلا يسيء العبد الظن بربه فيتعب ويشفى، ومن ثم يطول المرض أو ربما لا يبرأ منه أبدًا.
2-التفاؤل وتقوية الإرادة:
إن المرض ابتلاء من الله تعالى، وهو حالة ضعف يصيب الإنسان، وبالتالي فإن هذه الحالة تحتاج إلى الصبر وقوة في
الإرادة، والابتعاد عن كل ما يحدث اليأس أو القنوط من رحمة الله تعالى بالشفاء، فإن الصبر على المرض
يعدّ نصف العلاج، وإن الصابرين والمتفائلين لديهم قابلية الشفاء أكثر من غيرهم، يقول تبارك وتعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا
مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}(2).
3- التداوي:
ولا بد للمريض النفسي وغير النفسي، أن يأخذ بالعلاج ويتناول الدواء الذي يصفه الطبيب المختص إلى جانب قراءة
القرآن والدعاء، ما دام هذا الدواء مباحًا وغير محرم، ويعدّ هذا من باب الأخذ بالأسباب، ولكي يتحقق مفهوم التوكل
بالمعنى الصحيح، ثم إن النبي ﷺ يقول بصريح العبارة: «يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء
أو قال دواء إلا داء واحدا قالوا يا رسول الله وما هو قال الهرم«(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) [الشعراء: 80]
(2) [يوسف: 87]
(3) أخرجه الترمذي (ص 469-470، رقم 2038)

منقول


التعديل الأخير: