بعد هَلاك فِرعون ضَعُفت دولة الفَرَاعِنَة، فاحتلّ الفُرس مِصرَ سنة 305 ق.م؛ ثم أخضعها الإغريق بقيادة الإسكندر المقدوني، ثم حَكَمها البَطَالِمة، وبعدهم الرُّوَمان، وانتشرت فيها النَّصرَانِيَّة وعُرف سكانها بالأقباط، واستمرُّوا كذلك حتى جاءهم الفَتح الإسلامي، وأنقذهم من الضلال.
العَرَب هم الجنـس الأوّل الذي تلقّى الإسلامَ، وحمل ألويته ودعوته؛ فجَدير بنا أن نتعرّف عليهم أوَّلاً.
يُطلق مُسمَّى العَرَب على: الأقوام التي عاشت في شبه الجزيرة العربية .. وهذه الجزيرة يمكن أن نقسّمها إلى قسمين:
-قلب الجزيرة: وهي بادية، وأهم مناطقها نَجد.
-دائر الجزيرة: وسُكّانها حََضر، وأهم مناطقها: اليمن جنوباً، وغسّان شمالاً، والإحساء والبحرين شرقاً، ثم الحجاز غرباً.
أقسام العَرَب:
الجِنـس العربي هو أحد الأجنـاس السَّامية، ولعلّه أكثرها محافظة على خصائص السَّاميين، واللُّغة العَربية هي إحدى اللُّغات السَّامية؛ وقد قسَّم المُؤرّخون العَربَ إلى: عَرَب بَائِدة، وعَرَب بَاقِية.
أولاً: عَرَب بَائِدَة:
أي المُندَِثرة والفَانِية؛ ومنهم عَاد وثَمُود وطَسَم وجَدِيس وأصحاب الرَّس وأهل مَديَن.
أرسلَه اللهُ تعالى إلى قبيلة ثَمُود، الذين سكنوا في منطقة العلا (بين المَدِينة وتَبوك)، وقد كانوا بعد هَلاك عَاد؛ وهم عَرَب أيضاً، وعَبَدوا الأصنام كذلك .. فأرسل اللهُ إليهم نبيَّه صالحاً فَدَعَاهم إلى التَّوحيد، فرفضوا، ثم طَلَبوا منه سُخريةً أن يُخرِج لهم نَاقَة من صَخرة صَمَّاء، فحقَّق اللهُ تعالى المُعجِزة، ومع ذلك استمر أكثرهم على الكُفر! فقتلوا النَّاقَةَ وبعد ثلاثة أيام جاءتهم صَيحةٌ مِن السَّماء ورَجفةٌ شديدةٌ مِن أَسْفَلِهم فأهلكتهم .. قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا. إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا. فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا. وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا}. (سورة الشمس، الآيتان: 11 – 15)
وهم البَاقُون حتى الآن، وهم بنو قَحطَان وبنو عَدنَان.
- فبَنُو قَحطَان: هم العَرب العَارِبة "العَرب الأصليين"، ومَوطِنهم الأصلي جنوب الجزيرة ومنهم مُلوك اليَمَن، والمَنَاذِرة والغَسَاسِنة، ومُلُوك كِنده، ومنهم الأَزْد (الذين تفرَّع منهم الأَوس والخَْزرَج).
- أمّا بنو عَدنَان: فهم العَرَب المُسْتعرِبة "الذين اكتسبوا اللِّسان العَرَبي"؛ وهم عَرب الشّمال، وموطنهم الأصلي مكّة المكرّمة، وهم ذرية إِسْمَاعِيل بْنُ إِبْرَاهِيم عليهما السلام، وأَهمّ أبناء إِسْمَاعِيل: عَدنَان، ومنه انحدرت القبائل العربية.
كان العرب -كما ذكرنا- بَدو وحَضَر، والفِكر السّياسي عند البَدو يختلف عنه عند الحَضَر.
أولاً: قبائل البَدو
البَدو عاشوا كقبائل صغيرة متفرّقة في الصّحاري، ووَحدة القَبِيلة تربط بينها الدّم والعَصَبية .. ولم يكن سَهلاً قيام ارتباط بين عدد من القبائل لتكوين ممالِك، لطبيعة التّمرّد وعدم الخُضوع عند البَدو.
وهي المملكة الوحيدة التي قامت في أواسط الجزيرة العربية بين الحكم القبلي .. وكانت قصيرة العُمر، وأول مُلوكها: حُجْرٌ آكِلُ المُرَارِ؛ وكان تابعاً لملوك حِمَير في اليمن، واستطاع حفيده: الحَارِث بن عَمْرو أن يمد نُفوذه إلى الحيرة .. ثم انهار مُلكُهم وعادت الحياة القبلية .. ويُنسَب اِمْرُؤ القَيْس "أحد شُعَراء المُعَلّقات الجَاهِليين" إلى مُلوك كِنْدَه، وقد حاول إعادة مُلك آبائه ففشل.
(43) مَمْلِكة سَبَأ: قامت سَبَأ على أنقاض مَعِين وقِتْبَان، وانضّمت لها حَضْرَمَوْت، وكانت عاصمتها مَأْرِب، وترجع شُهرة هذه المملكة إلى سَببين هَامَّيْن هما:
قامت هذه المملكة بعد انهيار نفوذ مملكة سَبَأ، واتّخذت ظِفَار عاصمةً لها، وكان مُلُوكها يُلقّبون بالتَّبَابِعة؛ وقد خَلَّفت حِمْيَر آثاراً تدلّ على العظمة والرُّقي .. ثم ضَعُفت هذه الدّولة في أواخر عَهْدِها، مما أدَّى إلى احتلال اليَمَن مِن قِبَل الرُّوم ثم الفُرس.
خَيَّر "ذُو نُوَاسٍ" مَلِك حِمْيَر -الذي اعتنق اليهودية- المَسِيحِيين في نَجْرَان بين اعتناق اليهودية أو الموت، فاختاروا الموت، فحفر لهم أُخْدُودًا وأحرقهم فيه .. قال اللهُ تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ.} (سورة البروج: 4 – 6) .. ثم فَرّ مَنْ بَقِي منهم، واستنصروا بحاكم الحَبشة المسيحي "النَّجَاشِيّ" الذي طلب مُسَاعدة قَيْصَر الرُّوم "حامي المسيحية" والذي أرسل السُّفنَ والسِّلاحَ، فاستطاع النَّجَاشِيُّ إخضاع اليَمَن بواسطة قائده "أَريَاط"، الذي سَرَعان ما تمرَّد عليه "أَبْرَهَة" أحد مُساعديه، فقتـله، وأصبح هو حاكم اليَمَن؛ وكان ذلك في زمن عَبْد المُطَّلَب بْن هَاشِم (جَدُّ الرَّسُول مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم).
ثم فَرّ أحد أولاد ملوك حِمْيَر واسمه: "سَيْف بْن ذِي يَزَن" إلى بلاد فارس، وطلب نجدتهم لإخراج الأحباش من بلاده، فاستجاب الفُرس، فقدموا وانتصروا على الرُّوم، ثم أمر كِسْرَى أن يُتوّج سَيْفٌ مَلِكاً على اليَمَن .. وبعد مقتـل سَيْف، أرسل كِسْرَى "وَهْرَز" ليكون حاكماً لليَمَن تابعاً للفُرس، وبعد وَهْرَز حَكَم أبناؤُه وأحفادُه .. وعند بَعثة نَبِينا مُحَمَّد صلى اللهُ عليه وسلم كان حاكم اليمن الفارسي "بَاذَان" وهو من ذُرِّية وَهْرَز، وقد دخل بَاذَان في الإسلام عندما دُعِيَ إليه.
هُم قبائل بَدَوِية، استقرُّوا جنوب سُوريا، وامتدَّت مملكتهم مِن غزَّة شمالاً حتى العَقَبة جنوباً، فاتّخذت موقعًا هاماً في طريق التِّجارة بين الشمال والجنوب؛ وكان لها إتاوة على التِّجارة الصَّاعِدة والهَابِطة، وكانت عاصمة الانباط مدينة "البَتْرَاء" .. وقد بَلَغت هذه المملكة غاية مَجْدها في القرن الأول الميلادي، حيث امتد نُفُوذها إلى دِمَشْق، وامتدت جنوباً حتى مَدَائِن صَالِح (ولهم آثار مِعمَارية عظيمة هناك حتى الآن) .. وأشهر مُلُوكهم: الحَارِث الثَّالِث، وعُبَيْدَة الثَّانِي؛ وقد استولى عليها الرُّومان سنة 105 م.
وهي عَرِيقَة في القِدَم، فقد وَرَد لها ذِكْر قبل المِيلاد بأكثر من أَلف سنة، وبلغت ذُروة مَجدها في القَرن الثاني والثالث الميلادي، وكان لها موقع تجاري واستراتيجي هامّ بين الإمبراطوريتين الفَارِسية والرُّومَانِية، وكانت مرتبطة بالرُّومَان .. لِذَا خاضت حُروباً مُدمَّرًة ضد الفُرس، وانتصرت فيها انتصارات مُؤزَّرة، وذلك في عهد ملكهم "أُذَيْنَة" الذي بَسَط نُفُوذَه على سُوريَا كلها، ثم تولَّت بعده زوجته "زِنُوبْيَا"، التي تَحدَّت الرُّوم وخاضت معهم صِراعات عنيفة، إلى أن هُزِمت، ودُمِّرت مملكتها .. وقد عَبَد الأَنْبَاطُ والتَّدمَريُّون الأَوْثَانَ وقُوَى الطَّبِيعَة.