ضياء البرق
زيزوومى مميز
- إنضم
- 6 نوفمبر 2012
- المشاركات
- 334
- مستوى التفاعل
- 346
- النقاط
- 520
غير متصل
من فضلك قم بتحديث الصفحة لمشاهدة المحتوى المخفي
بسم الله الرحمن الرحيم
رحلة العمر
رحلة العمر
إنَّ العاقل وهو يقطعُ طريقَ رحلتِه في هذه الدنيا، فتتعرَّج به مسالكُها، وتتشعَّب به مساربُها، لَيتوقف بُرهةً من عُمر الزمان توقُّفَ المعتبِر، فينظر إلى آثار خطواته، ويتأمَّل طريقَ مسيرتِه الممتدّ، فتتنازعه مشاعرُ الدهشة والحزن والاغتباط؛ اندهاشًا من سرعة تصرُّم حبال الأيام، وانطواء بساط الأعوام، وحزنًا على سالف العمر وماضي الزمان، وما في طَوَايَا ذلك من تفويت وتفريط، وتسويف وتضييع، واغتباطًا بما أنجَح من مقاصده، وحقَّق من مآربه، إنها رحلة طويلة قصيرة، مُسعِدةٌ مُشجِيَةٌ، مُفرِحةٌ مُبكِيةٌ، طويلةٌ في تفاصيل أحداثها، قصيرةٌ حينَ يلوح للسائر فيها محطُّ رحاله، فيها انكسارات وانتصارات، ودموع حزن وسرور، وراحةٌ ونصَبٌ، واجتماعٌ وافتراقٌ، وصعودٌ وهبوطٌ، إنها سُنَّةُ اللهِ في هذه الدنيا، كما قال جلَّ شأنُه: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الْحَدِيدِ: 20].
إنها رحلة الحياة المتقلبة، التي لا تقر على حال.
تسير بنا حتى إذا عز جانب *** من السهل أَدْنَتْنَا من الجانب الوعر
كواكبُ رَكْبٍ في كواكبِ ظُلمةٍ *** تسير كما تسري وتجري كما تجري
فهي وإن كانت رحلة طويلة تمتد من حين يدرج المرء على هذه الأرض إلى أن يواريه الثَّريّ إلا أنَّها تُشبِه أحلامَ النائم، حين يهبُّ من رقاده، ويصحو من سباته، فكأنها إقامة ضيف، أو إلمامة طيف.
طيف ألمَّ قبيلَ الصبح وانصرفَا *** فكدتُ أقضي على فقدي له أسفَا
يا طيفُ قد كان مِنْ حُبِّي لكم شغف *** وزدتَني أنتَ لما زدتَني شغفَا
ما كان أطيبه عيشًا وأهنأه *** لو دام لي ذلك الطيف الذي سلَفَا
وما ألطفَ ذلك التشبيهَ النبويَّ لحال المؤمن مع الدنيا وسرعة انقضائها وما أرقَّه، فيما يرويه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "نام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصير، فقام وقد أثَّر في جنبه، قلنا يا رسول الله، لو اتخذنا لكَ وطاءً؟ فقال: ما لي وللدنيا؟ ما أنَا في الدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحتَ شجرةٍ، ثم راحَ وتركَها".
إخوةَ الإيمانِ: إنَّ المؤمنَ وهو يمخُر عبابَ بحرِ هذه الحياةِ الهادرِ، فتتقلَّب به لُجَجُها، وتتقاذفه أمواجُها، يعيش حالةً من الاستقرار النفسيّ والسلام الداخليّ؛ لأنَّه معلَّق القلب بخالق هذا الوجود، ممتلئ الفؤاد بحبه، متضلِّع الحنايا بتوحيده؛ فالصراع الدنيويُّ عندَه صراعٌ خارجَ النفس لا داخلَها، يراه بعينه ولا يعيشه في نفسه.
إن الإيمان الصادق في غمرات هذه الحياة يتخلَّل حنايا النفوس المنهَكة بَرْدًا وسلامًا، ورضًا ويقينًا، وسَكِينةً وثباتًا؛ فهو ربيع القلوب في بيداء الحياة، وظلُّها الوارف في هجير الشدائد، وسفينة النجاة في تلكم الغمرات، تجد المؤمن على رغم ما يلقى من أوهاق الحياة ومناكد الدنيا ساكنَ القلب، بسَّامَ المحيا، طَلْقَ الوجهِ، رضيَّ النفس، حلوَ المنطقِ.
ثَقُلَتْ مغارمُه فزاد نواله *** كالعود ضاعَف طِيبَه الإحراقُ
الإيمان سلوان القلوب، وأُنسُ النفوسِ، وسرورُ الأفئدةِ في حومة ذلك الصراع الدنيوي، فلا يَعرِف حلاوةَ العيش وطيبَ الحياة مَنْ لم ينغمس في نهره الدفَّاق فيعب منه حتى تروى روحه، فتصطبغ به ذاتُه، ويفيض ذلك الريُّ على جوارحه، ويتنضَّى به محياه، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النَّحْلِ: 97].
إن الحياة مع الإيمان حياة طيبة كريمة مطمئنَّة، تتصاغر أمامَها جبالُ المصاعب والشدائد، ويتهاوى ركامُ اللذائذ والمطامع؛ فللإيمان حلاوة كما عبَّر النبيُّ الأكرمُ -صلوات الله وسلامه عليه-، يجد طعمها في نفسه وأثرَها في قلبه مَنْ رسَخ الإيمانُ في قلبه إذعانًا وإقرارًا، وتحقَّق به امتثالًا وخضوعًا واستسلامًا، لا تَصِفُ لذتَها ولا تحدُّ حقيقتَها العباراتُ والكلماتُ، بل هي حقائقُ يعرفها أهلُ الإيمانِ، ويُدرِكُها الصفوةُ من عباد الرحمن.
الشيخ د. أحمد بن علي الحذيفي
إمام وخطيب المسجد النبوي
