غير متصل
من فضلك قم بتحديث الصفحة لمشاهدة المحتوى المخفي

منقول للفائده
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: هذا باب "ما يُقال للكافر إذا عطس فحمد الله"، وأورد فيه المؤلفُ حديثًا واحدًا، وهو حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله تعالى عنه- قال: كانت اليهود تعاطس عند النبي ﷺ رجاء أن يقول لها: "يرحمكم الله"، فكان يقول: يهديكم الله، ويُصلح بالكم.
هذا الحديثُ أخرجه أبو داود[1]، والترمذي، وقال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ[2]. وصححه جمعٌ من أهل العلم: كابن العربي، والنَّووي[3]، والحافظ ابن القيم[4]، وكذلك العيني[5]، والصَّنعاني[6]، والمباركفوري[7]، ومن المعاصرين سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله-، والشيخ ناصر الدين الألباني[8] -رحم الله الجميع-.
قوله: "كانت اليهود تعاطس" يعني: تتعاطس، يعني: تتكلّف العطاس، وفي لفظٍ: "يتعاطسون"[9]، يعني: يُظهرون العطاس، يتصنَّعونه، أو يتسبَّبون لذلك بشيءٍ يفعلونه، فينتج عنه العطاس، يتعاطسون عند النبي ﷺ، يعني: رجاء أن يقول لها –أي: اليهود-، وجاء الضَّمير مُؤنثًا: "يرحمكم الله"، يعني: رجاء أن يدعو لهم بالرحمة، فقد كانوا يعلمون أنَّه رسولُ الله ﷺ، والله يقول: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، ولا يخفى على أحدٍ ولده، وما قال: "يعرفونه كما يعرفون أنفسهم"؛ لأنَّ الإنسان لا يعرف نفسَه إلا بعد الولادة بمدّةٍ، لكنَّه يعرف ولدَه منذ البداية: كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ.
والله -تبارك وتعالى- أخبر عن هؤلاء: لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا، وصف هؤلاء القوم -وهم اليهود- بأنهم يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ، ووصف هذا اليأس في شدّته ومُنتهاه فقال: كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [الممتحنة:13]، على قولين بين المفسرين معروفين:
الأول: أنَّهم قد يئسوا من ثواب الله في الآخرة، كما يئس الكفَّارُ الذين ماتوا من أهل المقابر، كما يئسوا من ثواب الله في الآخرة؛ لأنهم عاينوا الحقائق، ورأوا منازلهم في النار، فهم في مُنتهى اليأس من ثواب الله في الآخرة، فهؤلاء الأحياء من اليهود يئسوا في الآخرة يأسًا كيأس أولئك الذين ماتوا من الكفَّار من ثواب الله في الآخرة؛ لما عاينوا من حقائق الغيب التي أُخبروا عنها، فعرفوا أنهم لا نصيبَ لهم؛ الموتى من الكفَّار، فيأس الأحياء من اليهود كيأس هؤلاء.
والقول الآخر: يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ كما يئس الكفارُ الأحياء من أصحاب القبور أن يلتقوا بهم؛ لأنَّهم لا يُؤمنون بالبعث، فلا لقاءَ؛ لأنهم يعتقدون أنَّ ذلك هو الـمُنتهى، هذا المثوى الأخير عندهم، انتقل إلى مثواه الأخير، فيئسوا أن يلتقوا بهم، أو أن يجتمعوا بهم مرةً أخرى.
فعلى كل حالٍ، هنا يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ، فكانوا يرجون أن يدعو لهم النبيُّ ﷺ بالرحمة، يُؤمّلون أن يقول: "يرحمكم الله"؛ لتعود عليهم بركةُ دعاء النبي ﷺ، حيث كانوا يعلمون حقيقة ما جاء به، إلا أنَّ الحسد والكِبر منعهم من الإيمان والاستجابة.
والتَّشميت هو ما يُقال للعاطس، فإذا نظرنا إلى كلام أهل اللغة كما يقول ابنُ دقيق العيد -رحمه الله-: بأنَّ التَّشميت هو الدُّعاء بالخير مطلقًا[10]، فيكون هذا للكافر وللمؤمن، فلا مانعَ من أن يُدعى للكافر بالخير، فيُقال له مثلاً: هداك الله، أصلحك الله، ونحو ذلك، يُدعى له بالهداية، هذا إذا فسّر التَّشميت كما يقول أهلُ اللغة: بأنَّه الدُّعاء بالخير.
وإذا نظرنا إلى خصوصه؛ خصوص التَّشميت في العطاس بالرحمة، كما دلَّت عليه السُّنة، بمعنى أن يُقال: "يرحمك الله"، فإنَّ هذا لا يُقال للكافر، ولا يُدعى له بالرحمة، ولا بالمغفرة، والله يقول: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى [التوبة:113]، وقال عن استغفار إبراهيم ﷺ: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:114]، فلا يُدعى له بالرحمة.
وبعض أهل العلم قالوا: إنَّ التَّشميت صار يتَّجه إلى الدُّعاء بالرحمة باعتبار الغالب، وإلا في اللُّغة هو دعاء له بالخير مُطلقًا، ولا يتقيّد بالرحمة. هكذا قالوا.
ومن ثم قالوا: يُشمّت الكافر. والصَّحيح أنَّ الكافر يُقال له كما قال النبيُّ ﷺ، فهم يدخلون في مُطلق الأمر بالتَّشميت، أو مُطلق التَّشميت، أو مشروعية التَّشميت، وهو ما يُقال للعاطس، لكن لا يكون كتشميت المسلمين؛ فأهل الإيمان يُدْعَى لهم بالرحمة، يقال: يرحمك الله، وأمَّا غير المسلم فإنه يُقال له: يهديكم الله، ويُصلح بالكم، كما كان النبي ﷺ يقول لهم.
يهديكم الله أي: يدلكم على الهدى لتهتدوا، يُرشدكم إليه، ويُصلح بالكم وهو ما يهتم به من أمر الدِّين، وذلك بأن يُرشدهم إلى الإيمان والإسلام، ويُزين ذلك في قلوبهم، ونحو ذلك من المعنى، فهذا الذي يحصل به صلاح البال: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [محمد:5].
هذا الحديث يدلّ على ما يُشرع في حقِّ الكافر من الدُّعاء له إذا عطس وحمد الله، بهذا القيد، قال: يهديكم الله، ويُصلح بالكم.
والذي يظهر أنَّ هذا لا يختصّ باليهود، وإنما كانوا يتعاطسون عند النبي ﷺ فيُقال ذلك في حقِّ غير المسلمين مطلقًا -والله تعالى أعلم-.
اصل الموضوع
يجب عليك تسجيل الدخول أو التسجيل لمشاهدة الرابط المخفي

