أبـو حفـص
زيزوومي VIP
غير متصل
من فضلك قم بتحديث الصفحة لمشاهدة المحتوى المخفي
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أمَّا بعد:
فإنَّ الله - سبحانه وتعالى - خلَق النَّاس في هذه الدُّنيا من ذكَر وأُنثى، وجعلهم شعوبًا وقبائل ليتعارَفوا ويتآلَفوا، ويتعاوَنوا على البِرِّ والتَّقوى، وعلى الأمر بالمعْروف وأفعال الخير، وكذلِك لكَي يتعاوَنوا على دفْع الإثْم والعُدْوان، وعلى النَّهي عن المنكر وعن أفْعال الشَّرّ، فلا يتكبَّر أحدٌ على أحد، ولا يتجبَّر أحدٌ على أحد.
فإنَّ الله - سبحانه وتعالى - خلَق النَّاس في هذه الدُّنيا من ذكَر وأُنثى، وجعلهم شعوبًا وقبائل ليتعارَفوا ويتآلَفوا، ويتعاوَنوا على البِرِّ والتَّقوى، وعلى الأمر بالمعْروف وأفعال الخير، وكذلِك لكَي يتعاوَنوا على دفْع الإثْم والعُدْوان، وعلى النَّهي عن المنكر وعن أفْعال الشَّرّ، فلا يتكبَّر أحدٌ على أحد، ولا يتجبَّر أحدٌ على أحد.
ولقد أمر الخالقُ عبادَه هؤلاءِ عن طريق الأنبياء والمُرْسلين، وعن طريق المبشِّرين والمنذِرين بأَن يكونوا إخوةً متحابِّين فيما بينهم، تسُود بينهم علاقاتُ المحبَّة والشَّفقة والتَّراحُم، ولكنَّه في نفس الوقت حرَّم عليهم أمرًا، هذا الأمر هو صفة المُجْرمين، هذا الأمْر ما شاع في الأُمَّة إلاَّ هوى بها إلى أسفلِ السَّافلين، فكم من بيوتٍ عامرة، وكم من قصورٍ شامِخة تهدَّمتْ بسبب فِعْلهم لهذا الأمْر، وكم من أُسرةٍ كانت تظلُّها السَّعادة، وتسود بين أفرادِها المحبَّة والتَّعاون، فبسبب انتِشار هذا الأمر بينهم أحاط بها الشَّقاء، ونزلت بها المصائب والمِحن، هذا الأمر لخطورتِه؛ حرَّمه الله على نفسِه قبل أن يحرِّمَه على النَّاس، إنَّه الظُّلْم، وما أدراك ما هو الظُّلم؟
الظُّلم ظلمات يوم القيامة، واسمع معي إلى كلام الله - تعالى - وهو يقول في الحديث القدُسي: ((يَا عِبَادي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسي وجَعَلْتُهُ بيْنَكم مُحَرَّمًا، فَلا تَظَالَمُوا))؛ رواه مسلم.
فيا تُرى ما هو الظلم؟ الظُّلم هو مُجاوزة الحدود التي شرعها الله - عزَّ وجلَّ - والتَّطاوُلُ على الحرمات التي قدَّسها ربُّ الأرْباب؛ فتعْذيب المسلم ظُلْم، وسرِقةُ ماله ظُلْم، وقَذْفُ نسائِه ظلم، وقتْلُه ظُلْم، وليعلم الظَّالم أنَّ المظلوم في ذلك اليوم العصيب سيُوقفه أمام المحكمة الرَّبَّانيَّة الَّتي لا يُظلم فيها أحد، وسيَعْلَم الَّذين ظلَموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون.
أيُّها الظَّالم:
أظننتَ أنَّ ظلمك للمسلمين والمسلمات؛ من ضَرْبٍ أو سبٍّ، أو شتْم أو تزوير، أو أكْل مالٍ بالباطِل أو أكْل مال يتيمٍ - سيضيع سُدًى؟! كلا، كلا؛ بل إنَّ الظّلم ظلمات يوم القيامة.
بل ورد في الصَّحيحين من حديث أبي مُوسى الأشعري أنَّ الحبيب النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، حتَّى إِذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ))، وقرأ النَّبيّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قولَ الله - تعالى -: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102].
بل تدبَّر معي جيِّدًا هذا الحديث الَّذي رواه ابن حبَّان عَنْ سيِّدنا جَابِرٍ، قالَ: لَمَّا رَجَعَتْ إلى رَسُولِ اللَّهِ - صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم - مُهَاجِرةُ البَحْرِ، قَالَ: ((ألا تُحَدِّثُونِي بِأعَاجِيبِ ما رَأَيْتُمْ بِأرْضِ الحَبَشَة!))، قالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: بَلى يَا رَسُولَ اللَّه، بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهابِينِهِم، تَحْمِلُ على رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فجَعَلَ إحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْها ثُمَّ دَفَعَها، فخَرَّتْ على رُكْبَتَيْها، فانْكَسَرَتْ قُلَّتُها، فلَمَّا ارْتَفَعَتْ الْتَفَتتْ إِليْهِ فقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ - يَا غُدَرُ - إذَا وَضَعَ اللَّهُ الكُرْسِيَّ وجَمَعَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ، وتَكَلَّمَتِ الأيْدِي والأرْجُلُ بِما كَانُوا يَكْسِبُون، فسَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أمْرِي وأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا! قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسلَّم -: ((صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ أُمَّةً لا يُؤْخَذُ لِضَعيفِهِم مِنْ شَديدِهِمْ؟!)).
نعم والله، كيف يقدِّس الله أُمَّة لا يؤْخَذ من شديدِهم لضعيفِهم؟! وكيف يقدِّس الله أمَّة لا تُحترم فيها الكرامات، لا تُصان فيها الأعراض والأنساب؟! كيف يقدِّس الله أمَّة تُسفك فيها الدِّماء، ويتَّهم فيها البريء، ويبرَّأ فيها الظَّالم؟! أمَّة بهذه الأخلاقيَّات الفاسدة محكومٌ عليها في الدّنيا بالدَّمار، ومَحكوم على أفرادِها من أهل الظُّلم في الآخرة بالنَّار.
لو نظرتَ - أخي المسلم - في مجتمع المسلمين اليومَ، ستجِد أنَّ الدّماء لا حُرمة لها، يُقتل كلّ يوم العشرات؛ بل المئات، الموت في بلاد المسلمين بالجملة، طوابير تُقْتَل ومن عامَّة النَّاس: نساء وشيوخ وأطفال دون استثناء، ضحايا التَّفجيرات على مدار السَّاعة ليلاً ونهارًا، علنًا وجهارًا، في الأسواق وفي المدارس والجامعات، نسف البيوت وتفْخيخها ثمَّ تفْجيرها على ساكِنيها، قتْل السجناء وتصْفيتهم إثر التَّعذيب وبأحدَث الطُّرق، حُرمة المسلم أصبحتْ لا قيمةَ لها، حُرمة المسلم أصبحتْ سِلْعة رخيصة في أسواقِنا.
أنا أقول لكلّ مَن يقتل ويساعد في قتْل المسلمين الأبرياء - أقول لهم: أيُّها الظَّالمون، إن كُنتم تظنُّون أنَّكم ستنْجون من مَحاكِم الدُّنيا، فاعْلموا أنَّ هناك مَحكمةً أُخرى ليستْ فيها رشوة، وليستْ فيها واسطة ولا شفيع، تلك المحكمة التي شعارها: ﴿ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49].
ولا تتصوَّر - أخي المسلم - أنَّ الله تعالى غافلٌ عن هؤلاء وعن أعمالهم، لا؛ بل إنَّ الله - تعالى - يعلم خائنةَ الأعيُن، إنَّ الله لا تَخفى عليه خافية؛ ولكنَّه يؤخِّرهم ويُمهلهم؛ لكي يزْدادوا آثامًا مع آثامِهم، ثمَّ يقول لهم هناك: ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ ﴾ [الصافات: 24].
أيها الظالم، اسمع إلى هذا الحديث الَّذي يرويه مسلم في صحيحِه: سأل النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يومًا أصحابه، فقال: ((أتدرونَ مَنِ المُفْلِسُ؟)) قالوا: المفْلسُ فِينَا مَنْ لا دِرهَمَ لَهُ ولا مَتَاع، فقَالَ: ((إنَّ المُفْلسَ مِنْ أُمَّتي مَنْ يأتي يَومَ القيامَةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزَكاةٍ، ويأتي وقَدْ شَتَمَ هَذَا، وقَذَفَ هَذَا، وأَكَلَ مالَ هَذَا، وسَفَكَ دَمَ هَذَا، وضَرَبَ هَذَا، فيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِه، وهَذَا مِنْ حَسناتهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُه قَبْل أنْ يُقضَى مَا عَلَيهِ، أُخِذَ منْ خَطَاياهُم فَطُرِحَتْ عَلَيهِ، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ)).
تأمَّل معي أيّها المسلم، لقد صلَّى وزكَّى وصام، ولكن مع ذلك ها هم المظْلومون يظهرونَ له يوم القيامة، يجرُّونه جرًّا ليقفوه بين يدَي الله - جلَّ وعلا -: هذا يجرّه من ظهْرِه، وهذا يجرُّه من لحيته، وهذا يجرّه من يَمينه، وهذا يجرُّه من يساره، فإذا أوقفوه بين يدَي الله، يقول أحد المظْلومين: يا ربّ، هذا شتمني، والآخر يقول: يا رب، وهذا ظلَمني، والآخر يقول: يا ربّ، هذا اغتابني، والآخر يقول: يا ربّ، هذا غشَّني في البيع والشِّراء، والآخر يقول: يا ربّ، هذا وجدني مظلومًا وكان قادرًا على دفْع الظُّلم، فجامل ونافق الظَّالمَ وتركني، والآخر يقول: يا ربّ، هذا جاورني فأساء جواري، والآخر يقول: يا ربّ، هذا عذَّبني وقتلني...
اعلم - أيّها الظَّالم - أنَّ الدّنيا لن تدومَ لأحد، وأنَّ المال لا يدوم لأحد، وأنَّ الصّحَّة لا تدوم لأحد، وأنَّ المنصب لا يدوم لأحد، ولو دام لغيرك ما وصل إليك، واعلم أنَّك ستموت وستَتْرك الدنيا وستقِف يوم القيامة أمام الله - تعالى.
لا تَظْلِمَنَّ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا
فَالظُّلْمُ آخِرُهُ يُفْضِي إِلَى النَّدَم
تَنَامُ عَيْنُكَ وَالمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ

يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللَّهِ لَمْ تَنَمِ
واللهَ أسألُ أن يُجنِّبنا وجميعَ إخوانِنا المسلمين الظُّلْم، وأن يوفِّقَنا للعدْل والإنصاف، وأن يؤمِّن المسلمين في أوطانهم، وألاَّ يُسلِّط عليهم عدوًّا من غير أنفُسِهم، وأن يقيَهُم شرَّ أنفُسِهم.
......................................
الشيخ محمد جمعة الحلبوسي.
شبكة الألوكة.
