أبو جَعفَرٍ الطّحَاويّ المتوفَّى سنةَ ثلاثمائةٍ وتِسع وعِشرِين هجرية، هذا الإمام أبو جَعفَر كانَ مِن أكابرِ العُلَماء، مِن أهلِ الحدِيثِ والفِقه وعقيدة أهلِ الحقِّ كانَ أدرَكَ نحوَ خمسينَ سنةً مِن المائة الثّالثةِ ثم أدركَ منَ المائةِ الرّابعةِ تِسعا وعِشرينَ سنةً حتى توفّاهُ الله تَعالى.هذا الإمام أبو جَعفر يقولُ في كتابه العقيدة الطّحاوية المشهورة مِن زمَانِه إلى عصرِنا هذَا وهوَ كتابٌ مُتَداوَلٌ عندَ أهلِ العِلم يُدرَّس ويُقَرّأ، وهذا الكتابُ عظِيمُ الفَوائدِ مَقبُولٌ عِندَ أهلِ المذاهِب مِن أهلِ السُّنةِ، وسُمَّيَ بالعقيدةِ الطّحاويةِ نِسبةً إلى مؤلِّفه أبي جَعفَر الطّحَاويّ، طَحَا هذه بلدةٌ في مِصر، قَريةٌ مِن قُرَى مِصر يقالُ لها طَحَا، وهوَ كانَ مِن هذِه القُرَى، ثم دَرَسَ العِلمَ على تلميذِ الشّافِعيِّ رضيَ الله عنه ثم دَرَس على تلاميذِ أبي حنيفةَ، على أصحابِ أبي حنِيفةَ، تَحوّلَ مِنَ المذهَب الشّافِعيِّ إلى المذهَبِ الحنَفِيّ.
فهَذا الإمام أبو جَعفر قال في كتابه العقيدة الطحاوية : اللهُ تَعالى مُنزّهٌ عن الحدّ أي لا يجوزُ الحدُّ على الله، المعنى أنّ الله تعالى ليسَ جِرْمًا فتَكون لهُ مِساحَة، لأنّ الجِرْمَ هوَ الذي له مِساحَة، ليسَ مَعنى تَعالى عن الحدّ أنّه شَىءٌ ممتَدٌ امتِدادًا واسِعًا جِدًّا، مَعنى تَعالى عن الحَدِّ لا تجوزُ علَيهِ المِساحةُ أي ليس جِرْمًا يَقبَلُ أن يكونَ ذَا مِقْدَارٍ، الإنسانُ لهُ مِقْدَارٌ والأرضُ لها مِقدَارٌ والجنّةُ لها مِسَاحةٌ والعَرشُ لهُ مِسَاحَةٌ وجَهنّمُ لها مِسَاحةٌ يَعلَمُها خَالقُها، فالأجرامُ أي الأجسامُ إنْ كانَت كبِيرةً وإنْ كانَت صَغيرةً لها مِساحَةٌ فالله لا مِسَاحةَ لهُ . لا يجوزُ عليه المسَاحةُ لأنه لو كانَ لهُ مِساحةٌ لكَانَ محدوداً والمحدودُ يَحتاجُ إلى حَادٍّ لهُ جعلَهُ بهذه المِساحة لا أَزْيَدَ ولا أقَلَّ والمحتاجُ إلى غَيرِه لا يكونُ إلا مخلُوقًا. لذلكَ الله تَعالى مُنزّهٌ عن الحدّ والمِسَاحةِ.
الشّىءُ الذي له مِسَاحَةٌ مخلُوقٌ يَحتاجُ إلى خَالقٍ فإذًا ظَهرَ وتَبيَّنَ أنَّ اللهَ هو صَانعُ كلِّ شَىء وخالقُه مُنزّه عن "الغَايةِ" والغايةُ هيَ الطَّرَفُ،أي الله تعالى مُنزّهٌ عن أن يكونَ شَيئًا لهُ أطرافٌ، "والأركان" معناهُ الجَوانِب أي أنّ الله مُنزّه عن أن يكُونَ لهُ أركانٌ أي جَوانب، "والأعضَاء" كذلكَ الله تعالى مُنزّه عن الأعضَاءِ كأعضائِنا هذهِ وأعضاءِ الملائكةِ الذينَ هُم عِظَامُ الخِلقَةِ الذينَ مِنهم مَن لهُ جَناحَانِ وآخَرُ لهُ أربعَةٌ وآخَرُ لهُ سِتُّمائة كجِبريل، الله خلَقَ جِبريلَ على سِتِّمائةِ جَناح كلُّ جَناح يَسُدُّ ما بينَ المشرق والمغرب، هذه صُورتُه الأصلية، ويُوجَدُ مَن هوَ مِنَ الملائكةِ أكبَرُ جِسمًا مِنْ جِبريلَ كحَمَلةِ العَرش، هؤلاءِ حمَلةُ العَرشِ أحَدُهم مَا بَينَ شَحمةِ أذُنه إلى عاتِقِه مَسِيرَةُ سبعِمائة عام بخفَقَان الطَّيرِ المسرع، فهؤلاء أيضًا لهُم أعضَاءٌ، لهم وجُوهٌ ولهم أَرجُلٌ ولهم أَيْدِي، لكنْ خِلقَتُهُم الأصليةُ خِلْقَةُ ابنِ آدَمَ أحْسَنَ مِنها لأنّ الله تعالى قال " لَقَد خَلَقْنا الإنسَانَ في أحْسَنِ تَقويم" لكنّ الملائكةَ إذَا تَشَكّلوا بشَكلِ بَشَر إنْ كانوا ملائكةَ الرّحمةِ تَكونُ صُوَرُهم جميلةً جِدًّا لذلكَ النِّسوةُ اللاتي أُعجِبْنَ بيُوسُفَ عليه السلام قُلنَ لما رَأيْنَه "مَا هَذا بَشَرًا إنْ هذا إلا مَلَكٌ كرِيم"سورة يوسف 31. وذلكَ لأنّ الملائكةَ إذا تصَوّرُوا بصُورِ بني ءادمَ وكانُوا مِنْ ملائكةِ الرّحمةِ تكونُ صُورُهُم جميلةً جِدًّا، أمّا ملائكةُ العَذابِ صُوَرُهُم مُخوِّفةٌ، سُودٌ زُرْقٌ. أجسَامُهم سَوداءُ زَرقاء حتى يُخَوّفُوا الكفّار، هؤلاءِ في الآخِرةِ أيضًا يكونُونَ، لو لم يَفعَلُوا بالشّخصِ شَيئًا إلا أنهم ينظُرونَ إليه لكَفَاهُ ذلكَ إزْعاجًا. فالحاصِلُ أنّ الملائكةَ مَعَ كَونِهم عِظامَ الأجسام لهم أعضاءٌ، فالله تبارك وتعالى لا يجوزُ علَيهِ الأعضاءُ لأنّهُ ليسَ شَيئًا لهُ جِرم، كذلكَ الله تبارك وتعالى مُنزّهٌ عن "الأدواتِ" الأدواتُ هيَ الأجزاءُ الصّغيرةُ كاللسانِ والأُذُن، اللهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عن الأدَواتِ يتَكلَّمُ بلا أدواتٍ كَلامًا ليسَ حَرفًا ولا صَوتًا، وخَلَقَ الكتبَ المنزّلةَ القُرآنَ والإنجيلَ والتّوراةَ والزَّبُورَ وسَائرَ الكتبِ السّماويةَ خَلقَها خَلْقاً مِنْ غَيرِ أن يؤلّفَها أحَدٌ مِنَ الملائكةِ ولا مِنَ الأنبياء، إنما الملَكُ جِبريلُ يتَلقّى تَلَقِّياً رُوحَانياً بأمرِ الله فيُنَزّلُه على النّبيِّ الذي أُرسِلَ إليهِ هذا الكتاب، (القرءانُ أخَذَهُ جِبريلُ مِنَ اللّوحِ المحفوظِ ثم نزَلَ بهِ على رسولِ الله مُفَرَّقًا، واللهُ أسْمَعَ جِبريلَ صَوتًا مَخلُوقًا بنَظْمِ القُرءانِ وأَمَرَهُ أنْ يقرأَهُ على محمّد،وأمّا الذي يقولُ إنّ جِبريلَ سمعَ القُرءانَ مِنْ كلامِ اللهِ الذّاتي ثم هوَ عبَّرَ بهذه الألفاظِ التي نقرؤها هذَا كأنّهُ يقُولُ القرءانُ مِن تأليفِ جِبريل وهذا كفرٌ) ، هذه الكتُبُ السّماويةُ التي هي تُقرأُ بحُروفٍ وألفاظٍ كقُرءانِنا عِباراتٌ عن كلامِ الله الذّاتيّ الأزلي الأبديّ الذي ليسَ حَرفاً ولا صَوتاً ليس مُبتَدأً ولا مُختَتماً بل أزليّ أبدِيّ.
ثمّ نقُولُ لهذا اللفظِ المنزّل كلامُ الله ونقولُ للكلامِ الذّاتيّ الأزليّ كلام الله، لكنّ الكلامَ الذي هو صِفةٌ ذَاتيّةٌ للهِ هو ذاكَ المعنى الذي ليسَ حَرفًا ولا صَوتًا، الذي هو أزليّ أبديّ.
هَذا يقالُ لهُ كلامُ الله لأنّ هذهِ الألفاظَ القُرآنيّةَ وألفاظَ التّوراةِ وألفاظَ الإنجيل الحقيقيّ وغير ذلكَ مِنَ الكتُبِ السّماوية يقالُ لها كلامُ الله، كتُبُ الله، لأنّهَا عِباراتٌ عن كلامِ الله الذاتي الأزليّ الأبدِيّ، تُعبّرُ عنه، إذا كتَبْنَا لفظَ الجلالةِ الله على اللوحِ فقِيلَ ما هَذا يُقال الله، ويُرادُ به أنه يَدُلُّ على ذاتِ الله، عِبارةٌ عن ذاتِ الله، ليسَ المعنى أنّ اللهَ الذي نَعبُدُه هوَ عَينُ هذه الأحرُف. على هذا المعنى نقول للقُرآنِ المنزّل للّفظِ المتلُوِّ كلامُ اللهِ وللتّوراةِ المنزّلةِ علَى مُوسَى كلامُ الله، إلى غَيرِ ذلك.
وأمّا قولُ أبي جعفَرٍ رحمه الله: " ولا تحوِيهِ الجِهاتُ السِّتُّ " المعنى أنّ الجِهات السِّتّ وهيَ فَوق وتحت ويمينٌ وشِمَال وأمَام وخَلْف لا تحوِي الله تعَالى، لأنّ الله تعالى كانَ قَبلَ الجِهاتِ السِّتّ كما كانَ قَبلَ المكان. فهو لا يجوزُ عَقلاً أن تحوِيه الجِهاتُ السِّتّ كسَائرِ المُبتَدَعات أي كسَائِر المخلوقات المحدَثات، المخلوقاتُ بأَسْرِها المبتَدَعات، كلُّ شَىءٍ دَخلَ الوجودِ لم يكن مَوجُودًا ثم دَخَلَ في الوجُودِ يُقالُ لهُ مُبتَدَع فجُملةُ العَوالم يقالُ لها المُبتَدَعات، أي أنّ الله تعالى ليسَ كهذه المخلوقاتِ المحدثاتِ التي تَحويْها الجِهاتُ السِّتُّ،
وقَالَ الإمامُ أبو جَعفر رحمه الله تعالى:" ومَن وصَفَ الله تَعالى بمعنًى مِنْ مَعاني البشَرِ فقَد كفَر" معنى هَذا أنّ الذي يقولُ عن الله إنّهُ مُتّصِفٌ بصِفَةٍ مِنْ صِفاتِ البشَرِ فَهو كافِرٌ مَا ءامَنَ بالله، فهَذا يكونُ كافِرًا بالله لأنّهُ كذَّبَ القُرآن، قال الله تَعالى:" لَيسَ كمِثلِه شَىءٌ ". فهذا الشّخصُ أَثبَتَ للهِ مِثْلاً، الذي يقُولُ عن اللهِ إنّهُ مُتّصِفٌ بصِفَةٍ مِن صفاتِ البشَرِ كذَّبَ قَولَ الله تعالى:" ليسَ كمِثلِه شَىء" وأَثبَت المثلَ لله فلذلكَ هوَ كافِر.
أوّلُ صِفَةٍ مِن صفاتِ البشَرِ الحدوثُ أي الوجودُ بعدَ عَدَم. فهذا لا يجوزُ على الله، الله تعَالى ليسَ مَوجُودًا بَعدَ عَدَم فلا يُقالُ هوَ خَلَقَ نَفسَهُ لأنّهُ لا ابتداءَ لوجُودِه، ولا يُقالُ إنّ شَيئًا غَيرَهُ أَوْجَدَهُ، بل يُقالُ مَوجُودٌ بذاتِه، يعني ما خَلقَه شَىءٌ غَيرُه، لا هوَ خَلَقَ نَفسَه ولا غَيرُه خَلَقَهُ، مَوجُودٌ بلا ابتداءٍ، هذا مَعنى مَوجودٌ بذاتِه.
بَعضُ الناس مِن جَهلِهم بخالقِهم يقُولونَ هوَ خَلَق نفسَه، الشّيطانُ يُوسوِسُ لابنِ آدمَ يقولُ لهُ، للمُسلِم، مَنْ خَلَق الأرضَ فيَقولُ الله، فيَقولُ له مَن خَلقَ السّماءَ فيقولُ الله ثم يقولُ ليَرمِيَهُ في الكفرِ مَن خلقَ الله فإن ثبّتَهُ الله على الحقِّ يقولُ الله مَوجُودٌ بلا ابتداءٍ ما خَلقَه شَىءٌ غيرُه ولا خَلَقَ نَفسَه.
أمّا بَعضُ الناسِ الذينَ هُم مُسلِمونَ جُهّال لا يَعرفونَ مَا يجوزُ على اللهِ ومَا لا يجوز يَنزلِقُون، يقولونَ هوَ خَلَقَ نَفسَه، فيكونونَ كفَروا، وهذا هو مُرادُ الشّيطانِ فيقولُ قَضَيتُ حَاجَتي منه، ويَفرَحُ.
كذلكَ بعضُ شياطِينِ الإنسِ يَفعَلُونَ ما يَفعَلُ الشّيطانُ الجِنّي، يُزلِقُونَ الناس إلى الكفرِ والضّلال.
أوّلُ صِفاتِ البشَر هيَ الحدوث، ثم بعدَ ذلك اتّصَفَ بصفاتٍ عدِيدةٍ منها اللّونُ ومنها التّطَوّرُ ومنها الحركةُ والسُّكون، ومنها الانفِعالُ، نحنُ نَنفَعِلُ إمّا إلى الفَرَح وإمّا الى الحَزَن، اللهُ تَعالى مُنزَّهٌ عن الانفِعالِ. كذلكَ مِن صِفاتِ البشَرِ التأثّر، التَّأثّرُ هوَ الإحسَاسُ بألمٍ أو بلَذّةٍ فاللهُ مُنزّه عن هذا، فرِضَى الله تَعالى ليسَ كرِضَى المخلوقينَ ليسَ انفِعالاً وتأثُّرًا، وسَخَطُه وغَضَبُه كذلكَ ليسَ انفِعالاً بل صِفةٌ أزليّةٌ أبديةٌ،إنما من حيث اللّفظُ يُقالُ لغَضَبِ الله غَضَب ولِرِضاه رِضى، ولغَضبِنا غضَب ولرِضَانا رِضى، اللفظُ مُتّفِقٌ أمّا المعنى مختَلِفٌ. فالله تبارك وتعالى لا يتّصِفُ بصفةٍ مِن صِفاتِ البشَر، فمَنْ وصَفَهُ بصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ البشَر كالجلوس أو الاستقرار أو الكون فى جهة أو مكان أو التغيّر كالصعود من سفل إلى علو أو النزول من علو إلى سفل فقَد كفَر، فاعْرِفُوا هذا واعتَقِدُوه ولْيَكُنْ ذلكَ على ذُكْرٍ مِنكُم.